vendredi 7 décembre 2012

هل يموت "ما نموتش" أم أنّه مات قبل أن يولد ؟؟



انتهت منذ أسبوعين تقريبا أيّام قرطاج السينمائية و كثر اللغط و الأقاويل و التشكيات خاصة في ما يتعلّق بالمسائل التنظيمية، و لعلّ أبرز خلل تنظيمي هو ما حدث مع آخر أعمال النوري بوزيد "ما نموتش" حيث كان من المفروض أن يتمّ العرض يوم السبت 17 نوفمبر بقاعة الكوليزي بتونس العاصمة إلاّ أنّه "تعذّر" (على رأي مفتي الجمهورية) عرض الفيلم لأسباب تقنيّة نتعرّض لها لاحقا في مقالنا هذا...
من هنا و كشاهد عيان لاحظت بعضا من ردود الفعل التي جادت بها قريحة بعض "مثقّفي" البلد من تأكيدات بقرار سياسي للحيلولة دون عرض الفيلم و سُبّ الجبالي و وزير الثقافة و الغنوشي و غيرهم لا لشيء سوى أن "المشكل التقني" لم يرق للبعض إن لم نقل عدم اقتناعهم أصلا !!

بعد أخذ و رد أُعيد برمجة الفيلم في ثلاثة عروض عوض عرضين يومي الجمعة 23 نوفمبر في عرضين بقاعة الكوليزي و و يوم السبت 24 في عرض بقاعة المونديال...
و قد كانت فرصة الحصول على تذكرة لأحد العروض بمهمة شبه مستحيلة استطعت ـ و الحمد لله ـ تجاوزها بعد عناء مرير !!

بدأ الفيلم نحو الساعة الحادية عشر و 17 دقيقة و منذ الوهلة الأولى كان بديهيّا ملاحظة نوعيّة الصورة و الصوت و المَحْمَل الجيدة و غير الاعتيادية صراحة. و مع النبش في الموضوع اتّضح أنّ الفيلم قُدّم لهيئة المهرجان بصيغة السي سي پي (ديجيتال سينما پاكايدج) ما يعادل "رزمة سينما رقمية" كترجمة عربية ركيكة، و هذه الصيغة تعتبر من آخر تطوّرات تقنيات العرض في السينما الرقمية الحديثة و سأكتفي بالأساسي في هذا الخصوص لتجنب الإطالة: هذه التقنية تمكّن من خزن الشريط وفقا لمعايير محددة إما على فلاشة تخزين أو على قرص صلب يتم ايداعه في خادم (سرڢور) قاعة العرض ليتناسب تماما مع كل صالات السينما كحلّ لتجاوز عوائق نقص معدّات العرض في صالة سينما ما...
إذن بعد ايداع الفلاشة أو القرص الصلب في "سرڢور" صالة السينما يتمّ تفعيل كود خاص يسمّى بــ(كي دي آم) كي ديليڢري ميساج أو ما يعطي كترجمة حرفية "مفتاح رسالة التوصيل"... هذا الإجراء يعتبر حلاّ وقائيا ضد عمليات القرصنة للشريط.
الكود يتم تفعيله (آكتيڢاسيون) لمدّة محددة هي غالبا مدة عرض الفيلم لمكان معلوم مسبّقا، مخبر التحميض هو من يمتلك حصريّا كود التفعيل و لا أحد غيره يمكنه القيام بعملية التفعيل...
مثال الحال أنّ المخبر لم يُعلم مسبقا بموعد عرض 17 نوفمبر و تم التفطن لإشكالية الكود دقائق قبل العرض مما دعى المسؤولين للاتصال بالمخبر الفرنسي فورا لبرمجة تفعيل الكود في تلك الأثناء الأمر الذي استحال نظرا أن يوم السبت يوم عطلة إذن المخبر مغلق حينها و لا مجال لعملية تفعيل مما يعني استحالة عرض الفيلم في موعده فلا مكان لقرار سياسي مزعوم لمنع العرض و لا لعودة صنصرة "لحقوق التعبير" كما فسّر البعض ذلك...

سينمائيّا، يبقى النوري بوزيد من أبرز المخرجين التونسيين ادارة للممثلين و الكاميرا على حد السواء من خلال اختيار المَشاهد (داخل الأماكن المغلقة خصوصا) و هو ما تجلّى في عدّة مناسبات في الفيلم.
غموض المعنى في بعض الأحيان من خصائص سينما النوري بوزيد مما يعطي بُعدا ذاتيّا لمتلقّي الفيلم يختلف تحليله من شخص لآخر ليُعطي معان مختلفة قد يكون قصدها المخرج و قد لا يكون !! فسينما النوري بوزيد تبقى قابلة للتأويل وفق زاوية و مرجعيّة المتفرّج و هذا نجده في فيلم "آخر فيلم" حيث فهم البعض دعوة للتخلّي عن اسقاط بعض المفاهيم الدينية (الجهاد أساسا) في غير مواضعها مثلما فهم شقّ آخر دعوة للإلحاد و نكران القرآن جملة و تفصيلا.
نفس الشيء مع فيلم "ريح السد" حيث اتُّهم بوزيد بالتشجيع على اللواط مثلما فهم البعض الآخر أن المجتمع التونسي يُواجه ظاهرة "جديدة" في ذاك العصر اختلفت طرق التعامل معها !!!
فالمخرج في نهاية الأمر يقدّم عمله و يبقى المتفرّج حرّا في تعليقه و فهمه !! من هذه الزاوية برز تعريف السينما بكونه: "دعوة لمعرفة الذات.."
ما نموتش جاء مليئا بالرمزية و التحدّي بدء ا بعنوان الفيلم (في التسمية العربية و اللاتينية على حد السواء)
مرورا بترايلر الفلم انتهاء بدور "عمّو" الذي جسّده بوزيد ذاته و تتالي مشاهد تغسيل جثّة "عمّو" في رمزيّة متعددة التأويلات: فهل قصد النوري بوزيد بموت "عمّو" و تغسيله موت الموسيقي، المبدع، الفنان في ظلّ نظام انسحب من سياسي إلى مجتمعي رافض لكل مظاهر الابداع عموما، أم أنّ بوزيد رأى كفنه في فيلمه هذا خاصة بعد مضايقات عدّة تعرّض لها شخصيا و استبق تطوّر حِدّتها بعد صدور "ما نموتش" ؟؟ تبقى هذه تأويلات و لكلّ رؤيته...
محور الفيلم لم يكن الحجاب في حد ذاته بقدر ما كان الحريات الشخصية في تونس ما بعد 14 جانفي و قد كان الحجاب مدخلا لهذا الموضوع...
فعايشة جمعت تناقضا و إن كان حالة شبه شاذّة فإنها موجودة !! فتاة بلغت السابعة و العشرين من العمر توفيت والدتها و هجرها والدها و اخواتها الاثنين لتجد نفسها مضطرّة لاعتزال احلامها في سبيل توفير لقمة عيش كريمة لعائلتها أو ما تبقّى منها... تحبّ و تهب نفسها من أحبّت يهجرها فتجد نفسها أمام مجتمع لا يرحم ليكون الملاذ غطاء الدين فتتحجّب.
أما صديقتها زينب فتبدو أقل تحرّرا من عايشة "سافرة" (على رأي من اقترب نعته بالرئيس الأسبق) تتعرّض لضغط نفسي رهيب من طرف عائلتها لارتداء الحجاب فقط إرضاء لزوج مرتقب تمعّش من تقرّبه لبعض المتنفذين في العهد السابق مقدّما صورة نمطية عن رجل الأعمال الفاسد في تونس اليوم...
و إن كانت زينب قد تعرّضت لتضييقات من أجل حمل الحجاب فإن صديقتها عايشة تعرّضت لتضييقات عكسيّة: فإما خلع الحجاب أو التنازل عن مورد رزق..
مقاربة أرادها بوزيد بين من اختارت الحجاب و من رفضته اقتناعا في كلتا الحالتين..
بقي أن ننوّه أن الحريات الفردية لا تتجزء عند الدفاع عنها، فالسينما تدافع عن قيم قبل أن تدافع عن آراء !! و ما نهاية الفيلم إلا دليل عن هذا الخلل.
فأيّا كان الموقف الشخصي لأيّ كان من الحجاب، يبقى هذا الأخير حرّية فرديّة وجب الدفاع أيضا عن من تمسّكت به !! هذا ما لم ألحظ دفاعا جدّيا عنه في الفيلم فكان الانحياز أكثر لقضية زينب.
النقطة الثانية هي أن الشريط "اجترّ" موضوعا برمّته كان قد تم تناوله (و بنفس الطريقة) في شريط مغربي آخر (حجاب الحب لمن يريد التأكّد) فلا أدري إن كان من مفاجآت الصدف (!!) أم لأمر لا أزال أجهله..
و رغم شهرة الفيلم المغربي فلا أحد أشار إلى هذا "الإشكال".
اختيار الموسيقى التصويرية كان متناسقا مع طبيعة الفيلم و نسقه، موسيقى كانت قريبة من وجدان التونسي و "هوّيته" خاصّة مع تعويل بوزيد على موسيقي تونسي هو سامي المعتوڤي في مغامرته الأولى في نمط الموسيقى التصويرية.

قبل مشاهدة الفيلم صراحة كنت متخوّفا من أن يكرّر النوري بوزيد نفسه في "ما نموتش" مع تجربة التعصّب الديني و بذلك يكون واحدا من اثنين: إما أن يكون اقتنع بفشل "ماكينڨ أوف" (و هو ما لا أراه فعلا حيث أنّ الفيلم أحدث فعلا ضجّة في كل الأوساط في 2006) و إما أن يكون النوري "شاح" أو نضبت قريحة الإلهام عنده..
الآن و بعد مشاهدة الفيلم لا يصحّ التحليل السابق و لو أنّ مخرجنا عليه بعض المؤاخذات مثل أنّه اختصّ في ثنائي من جملة ثلاثي السينما المحرّم (الجسد، الدين و السياسة) و قد تكون هذه بصمته في أفلامه، المؤاخذة الثانية هي تقريبا انعدام المغامرة التجارية بمعنى: إن وُجد دعم مادّي (على مستوى الكتابة أو الانتاج) من سلطة الإشراف أُنجز الفيلم و إلاّ فــ"هانا ڤاعدين"...


أُعجبت كثيرا بالفيلم تقنيّا بالأساس حيث أنّ الإخراج و كل ما تعلّق بالتقنيات المستعملة قارب الكمال، تبقى طريقة تناول الموضوع غير حياديّة بالكمّ المطلوب (و هذا رأيي).
و كلّ الرجاء أن "ما يموتش" هذا الشريط في بيروقراطيّة وزارة الثقافة و يخرج لجمهور السينما في تونس (و لو على قلّته)...


أريانة في 7 ديسمبر 2012

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire